الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
والحقيقة الثانية: هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام. لما يعلمه الله- سبحانه- من طبيعة الطريق؛ وطبيعة البشر؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين.إن الجهاد ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة. إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة! وليست المسألة- كما توهم بعض المخلصين- أن الإسلام نشأ في عصر الإمبراطوريات؛ فاندس في تصورات أهله- اقتباساً مما حولهم- أنه لابد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن!هذه المقررات تشهد- على الأقل- بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصيلة لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون.لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله؛ في مثل هذا الأسلوب! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مثل هذا الأسلوب..لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق».ولئن كان صلى الله عليه وسلم رد في حالات فردية بعض المجاهدين، لظروف عائلية لهم خاصة، كالذي جاء في الصحيح أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أجاهد. قال: «لك أبوان»؟ قال: نعم. قال: «ففيهما جاهد». لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة؛ وفرد واحد لا ينقص المجاهدين الكثيرين. ولعله صلى الله عليه وسلم على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فرداً فرداً، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه، ما جعله يوجهه هذا التوجيه..فلا يقولن أحد- بسبب ذلك- إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف. وقد تغيرت هذه الظروف!وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين!إن الله- سبحانه- يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك! ويعلم أن لابد لأصحاب السلطان أن يقاوموه. لأنه طريق غير طريقهم، ومنهج غير منهجهم. ليس بالأمس فقط. ولكن اليوم وغداً. وفي كل أرض، وفي كل جيل!وإن الله- سبحانه- يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفاً. ولا يمكن أن يدع الخير ينمو- مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة!- فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر. ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل. ولابد أن يجنح الشر إلى العدوان؛ ولابد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة!هذه جبلة! وليست ملابسة وقتية...هذه فطرة! وليست حالة طارئة...ومن ثم لابد من الجهاد.. لابد منه في كل صورة.. ولابد أن يبدأ في عالم الضمير.ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود. ولابد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح. ولابد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة.. وإلا كان الأمر انتحاراً. أو كان هزلاً لا يليق بالمؤمنين!ولا بد من بذل الأموال والأنفس. كما طلب الله من المؤمنين. وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.. فأما أن يقدر لهم الغلب؛ أو يقدر لهم الاستشهاد؛ فذلك شأنه- سبحانه- وذلك قدره المصحوب بحكمته.. أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم.. والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل.. والشهداء وحدهم هم الذين يستشهدون..هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة، وفي منهجها الواقعي، وفي خط سيرها المرسوم، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية، التي لا علاقة لها بتغير الظروف.وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين- تحت أي ظرف من الظروف. ومن هذه النقط.. الجهاد.. الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث.. الجهاد في سبيل الله وحده. وتحت رايته وحدها.. وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه شهداء ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم..بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق- وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية- أن يهاجروا.. حتى يحين أجلهم؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم. يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته، وبمصيره عند ربه؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم:{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً}..لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية- في مكة وغيرها- بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيام الدولة المسلمة. فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا. حبستهم أموالهم ومصالحهم- حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجراً يحمل معه شيئاً من ماله- أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة- حيث لم يكن المشركون يدعون مسلماً يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق.. وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلاً للهجرة..وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ومنعهما من الهجرة. وبعد قيام الدولة المسلمة.وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم. فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألواناً من العذاب والنكال، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد.وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلاً؛ واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية، ومشاركة المشركين عبادتهم.. وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها- متى استطاعوا- فأما بعد قيام الدولة، ووجود دار الإسلام، فإن الخضوع للفتنة، أو الالتجاء للتقية، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام، والحياة في دار الإسلام.. أمر غير مقبول.وهكذا نزلت هذه النصوص؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم، أو إشفاقاً من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق.. حتى يحين أجلهم.. تسميهم: {ظالمي أنفسهم}.. بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة. وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة، وتوعدهم {جهنم وساءت مصيراً}.. مما يدل على أنها تعني الذين فتنوا عن دينهم بالفعل هناك!ولكن التعبير القرآني- على أسلوب القرآن- يعبر في صورة، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار:{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}..إن القرآن يعالج نفوساً بشرية؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة.. لذلك يرسم هذا المشهد.. إنه يصور حقيقة. ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية..ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه. وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافاً وتحفزاً وحساسية.وهم- القاعدون- ظلموا أنفسهم. وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم.. ظالمي أنفسهم. وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها. إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه، فهذه هي اللحظة الأخيرة.ولكن الملائكة لا يتوفونهم- ظالمي أنفسهم- في صمت. بل يقلبون ماضيهم، ويستنكرون أمرهم! ويسألونهم: فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا:{قالوا فيم كنتم}..فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع!ويجيب هؤلاء المحتضرون، في لحظة الاحتضار، على هذا الاستنكار، جواباً كله مذلة، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة.{قالوا كنا مستضعفين في الأرض}..كنا مستضعفين. يستضعفنا الأقوياء. كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئاً.وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية؛ وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة.فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم. بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة، والفرصة قائمة:{قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}..إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم- إذن- على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان.. إنما كان هناك شيء آخر.. حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام. ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة. والهجرة إليها مستطاعة؛ مع احتمال الآلام والتضحيات.وهنا ينهي المشهد المؤثر، بذكر النهاية المخيفة:{فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}..ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر؛ والتعرض للفتنة في الدين؛ والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف، والنساء والأطفال؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته. بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار:{إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً}..ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان؛ متجاوزاً تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين؛ وفي بيئة معينة.. يمضي حكماً عاماً؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض؛ وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها. متى كان هناك- في الأرض في أي مكان- دار للإسلام؛ يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها عباداته؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة..أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية؛ التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها؛ وتشفق من التعرض لها. وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معاً. فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة- سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه- في حالة الهجرة في سبيل الله؛ وبضمان الله للمهاجر منذ أن يخرج من بيته مهاجراً في سبيله. ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق، فلا تضيق به الشعاب والفجاج:{ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً}..إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين.وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة؛ فلا يكتم عنها شيئاً من المخاوف؛ ولا يداري عنها شيئاً من الأخطار- بما في ذلك خطر الموت- ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى.فهو أولاً يحدد الهجرة بأنها {في سبيل الله}.. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة. ومن يهاجر هذه الهجرة- في سبيل الله- يجد في الأرض فسحة ومنطلقاً فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة:{ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}..وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً.وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس. مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله.. إنه سيجد في أرض الله منطلقاً وسيجد فيها سعة. وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه وينجيه..ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله.. والموت- كما تقدم في سياق السورة- لا علاقة له بالأسباب الظاهرة؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم. وسواء أقام أم هاجر، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر.
|